سدرة الحسين، وقصائد أخرى

Tuesday, 11/09/2012, 12:00

1693 بینراوە






تشبعت روح الشاعر الكردي صلاح جلال برحيق فلسفة (هايدغر)، واستلهمت عبرها سيرورة الحياة والكون، فكانت قصائده مشهداً فكرياً يرقي نحو محافل التأمل، من اجل بلوغ مرحلة متقدمة في التعبير عن جوهر الفلسفة الإنسانية، وهو يتقدم بقصيدته لتكون صورة حيّة حقيقية عن واقع مفترض، ولكنها تتوغل عميقاً نحو الذهن/ العقل لتصدح نشيداً له، فقد كان الشعر قد أصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان (سقوط الكون) عام 2002 م، بالسليمانية، وقد لاقت احتفاءً طيباً من كل النقاد، وفي عام 2011م أصدر مجموعته الثانية (سدرة الحسين) وهي تضم عدة قصائد تجمع بين توجهه الأول في (سقوط الكون) وهذه المجموعة الجديدة، فما زالت آثار (هايدغر) واضحة مع مؤثرات صوفية نابعة من تراث الشاعر والمفكر محي الدين بن عربي (638 هـ / 1240 م) من خلال استلهام الأفكار والشخصيات التي عبرّت عنه تراثه العريق.
أول ما تحيلنا قصيدة العنوان (سدرة الحسين) إلى رمزين كبيرين من رموز الموروث العربي الإسلامي، الأول هو السدرة التي هي شجرة ذات قدسية خاصة ترتبط بشجرة الحياة، وسدرة المنتهى، اذ يقدس الفكر الشيعي الشجرة لا سباب عدة منها أنها تعبير عن شجرة آدم وتراث الأئمة حتى أصبحت تعبيراً مقدساً عن علاقة النبات بالقوى الإلهية، ولعل وجود شجرة آدم عند التقاء دجلة والفرات هو واحد من هذه الرمزيات المتغلغلة في الفكر الديني، وذاكرة الناس، وربما كانت رمزا وجودياً للذكورة ولقائها بالإنوثة أو تعبير رمزي عن علاقة الحياة بالموت في رحلة تعويضية مهمة تعبر عن علاقة عشتار الام الكبرى بالشجرة، وبالحديث النبوي الشريف الذي يقول: اكرموا عمتكم النخلة، فهي اخت ادم، وفي بعض الروايات ان الله خلق آدم وحواء فزادت طينة من ذلك الخلق فخلق بها النخلة، والجزء الثاني من العنوان يستلهم شخصية الثائر الحسين بن علي (عليه السلام) الذي تمتزج صورته هنا برحيق الشجرة، في لقاء حميم بين الخضرة رمز الحياة والام رمز الشهادة لتكتمل دورة حركة الوجود والزمن لتأسيس معادلة تعويضية توائم بين الموت والحياة، حيث تصبح الشهادة / الموت روزاً للحياة/ الخلود.
(2)
تحاول قصيدة (سدرة الحسين) ان تستلهم النور الإلهي والتوغل داخله بحثاً عن فلسفة ذهنية متوغلة إلى الأعماق الفكرية الجديدة من خلال قدرة الشاعر على إحالة ما هو عادي إلى ما هو فلسفي / عميق / وجودي / ميتافيزيقي، وبهذا تحوّل النص الشعري إلى حضنة فلسفية للتعبير عن الإدراك الحسي الذي لينتفض مثل عصفور اكتوي بلسعات الشمس المحرقة ليعيد بصياغة الطقس الديني بوصفه تعبيراً فلسفياً عن لغة الحياة والشعر، فقد كان ابن عربي يقول عن الروح:
روح من الروح في جسم من النور المـــاء أودعتـــــــــه في حام بلّور
يعطيك ظــــــاهره أسرار باطنـه كالمبصرات اذا ما فُضّ في النور
وصلاح جلال يقول في (سدرة الحسين(
في هذا العدم للُغةِ العصرِ الأَبيض(...)
أَثارَ نفقَ الوجود بدَعواتهِ!!
تولدُ خميرةُ تراجيديا العدم على الوجود
أَطعمَ ورقُ السدرةِ السَّيفَ والروح
في كُثيبٍ للآيات
تغير بشجرةِ خضراءِ اليقين
طفى ببلايين الرضع فوق الماء
بُذرت الأَرضَ بالسَّيف(...)
أي يكتب الشاعر قصيدته من خلال تمثله لرؤيا الوجود، أو رؤيا الحياة، ثم يحاول ان يمزج بينهما بطريقة ذهنية قادرة على استلهام المشروع الفلسفي الجديد الذي يتخذ فلسفة الوجود طريقاً له، وهذا التزاوج يشبه إلى حد ما الصراع الخفي بين النور والظلمة، ويعني بالظلمة كلمة الحياة والاضطهاد، والنور نور الحقيقية.
(3)
ان الجانب العقلي لا يتمادى كثيراً في صناعة اللغة بوصفها الجانب الضروري لبناء صورة شعرية متقدمة، لان متطلبات التعبير (أحيانا) تقتضي من الشاعر لغة خاصة مشحونة بالمصطلحات، وهذا ما يدفع القصيدة من مجالها الحمي إلى ميدان المنطق، لان المنطق أو الـ (Logic) هو حكاية / وحي الهي، يقترب تدريجياً من المجاز الشعري، ويتربع على عرش الاستعارة بوصفها حكاية مختزلة، أنها حكاية مختصرة في عبارة، وما تزال تحتفظ بـ (لاعقلانية) أصولها جميعاً، وبهذا يمكن للشاعر ان يمزج الرموز الواقعي بالرمز الفلسفي/ العقلي، كما في قول صلاح جلال:
انفجر الكونُ مِنَ الفوتون والسدرة(...)
يَنسجُ تُّفاحَ أَرضِ كربلاء
تُّغطيها حواءُ لِباساً حديدياً
مسَحَها نيوتن وآينشتاين
بذاك التُّفاحِ المتمرد مِنَ النظرياتِ
وَتلَّونتْ كربلاء بأَلوان الكون(...)
مما سمح للشاعر بان يمزج صور ورموز الأنبياء الآخرين بشخصية، لذا يقول في قصيدة (السدرة والزيتون والتفاح):
في هذا الليل أَمسَّك الكونُ تُّفاح الفلسَّفة(...)
قال: لَن أَتناول سُمَّ الفلسَّفة
الآن حربُ كونِ التُّفاحِ
يزرعُ سُمِّ الفيزياء (الكون )
إِندفعَ قدحَ السُّم
حلمُ يوسف لم يرويه لاحد(...)
أَشعلَ نوح سَّفينة العلم
موسى وجَففَ مسار البحر بالترابْ
وَوجَّه عَصاه إِلى عصرِ الأَتومْ
هذه القصيدة تقول على افتراضات فلسفية ربما تناقض المسلمات الدينية، لا نها تحاول ان تؤسس لها خطابها الخاص بها، ليدفعها باتجاه (فضاء التفاح والسدرة والزيتون) وذلك ان التفاح رمز للخطيئة وصورة من صور الجسد، والسدرة رمز كوني كبير، والزيتون رمز حياتي عظيم يحمل معه قداسته، لاعتقاد الشاعر بان السدرة والزيتون شجرتان تصنعان جدل الثقافة.
(4)
ثمة محاولة في قصائده الفلسفية لقراءة فلسفية عبر النظم الشعري، لان الشعر يعد وسيلة من وسائل الرؤيا / الإيحاء مثله مثل الفلسفة التي هي رؤيا من نوع آخر، وهذا ما يجعل الفلسفة تلتقي بالشعر عبر أنطولوجيا الوجود وسيرورته القائمة على صراع التضادات، ولعل قصيدة (إمبريالية الكلب) واحد من القصائد الفلسفية المهمة، بيد انه يحاول جاهداً حشد اكبر عدد من الأفكار والشخصيات، كما في قوله:
كتب بكاءٌ على حجر الفرعون الأزلي..
عبرية الآن عصر نسيان الكلمة
برق لها المحيط والأرض والسماء
لم يقرأ أي فيلسوف القدر
اختبط أينشتاين العشق في الغيمة بفيزياء
كتب أفلاطون جمهورية النسيان.. تصادفية الموت
تكون مدينة السقوط من أنا أفكر
جعلتني في محيط شك بيضة الكون
برعم طائرة النظر لشجرة الفكر
اذ يذكر أسماء واصطلاحات فلسفية عديدة مثل (حجر الفلاسفة، أينشتاين، أفلاطون) ويشير إلى مقولة ديكارت: "أنا افكر أنا موجود" وما شابه ذلك، وهذا بحد ذاته جعل اللغة الشعرية أشبه بشماعة تعلق عليها أفكاره الفلسفية، ولكن لابدّ من الاعتقاد بان الشعر والفكر رافدان ينبعان من ينبوع واحد، فيما لان تفسير حركة الوجود والحياة بأسلوب متقارب، وشعر صلاح جلال هو شعر تشبع بوهج العقل وعرس حضوره في رحم الفلسفة، مما يحيلنا إلى إشكالية أو عملية واضحة في دمج المعرفة بالوجدان / العاطفة / الشعر، ويدفعنا نحو التساؤل حول جدوى التعبير الشعري عما هو معرفي، وكيفية استخدام الرموز الفلسفية وتوظيفها للتعبير عن الوجدان، فنقول: هل غاية الشاعر هي الإشارة أو التوظيف؟ وهل لديه مآرب أخرى؟
والشاعر صلاح جلال مهتم بفكر (هايدجر)، لذا عد قصيدة (فلسفة الموت) هي (الفاكس) الثالث لفلسفة الموت، حيث يقول:
دفن (هايدجر) في كفن ورقة اللُغة
وإعصارُ اللُغة تكون بإعصار الفلسَّفة
و رجعت ورقةُ العالَم إِلى شجرة الأَب الأَول
قتل أدم (حواءُ) وجفف التُّفاح (أدم)
الآن..الآن شجرةُ التفاح هي وطنُ لفلسَّفة الموت
هذه الأَرضُ كونت شجرة فلسَّفة موت الوجود(..)
اذا كان الشعر فناً أدبيا راقياً، فان الفلسفة فكر أنساني متقدم له خصائصه يلتقيان عبر القدرات الحدسية التي يمتلكها الشاعر والفيلسوف في الكشف عن جوهر حركتي الحياة والوجود، وذلك لان الشاعر يظل باستمرار يحاول ان يرتقي بفنه نحو العقل لا نه بحاجة دائمة إلى قوة تفكير الفيلسوف، كما كان الفيلسوف بحاجة دائمة إلى حدس الشاعر، وهنا يصبح الشعر الفلسفي مزيجا منهاتين الحاجتين، وهما يتعادان من اجل خلق صورة جمالية متقدمة تعبر عن صيرورة الفكر، وديمومة الوجود، ورقي لغة الشعر، بحيث تبدو العلاقة بين المعرفة واللغة أشبه بعلاقة الروح باللغة، يقول امانوئيل كانت: الروح في العمل الفني هي المبدأ الذي يشع بالحياة وفن الشعر هو الفن الذي تستطيع ملكة الأفكار الجمالية ان تظهر فيه بكل قدرتها،وهذا بدوره دفعه إلى الاعتقاد بان الفكرة الجمالية هي تمثّل للخيال مصحوب بمفهوم معين، ويرتبط بألوان عديدة من التمثلات الجزئية، مما لا يمكن اللغة الوفاء بالعبير عنه، وبالتالي فان تمثلاً كهذا يجعل التفكير يُضيف إلى المفهوم أشياء كثيرة نعجز عن تسميتها، لكن الشعور بها يحي ملكات المعرفة، وجعل بين الروح واللغة بوصفها احرفاً لا غير. مما يعني ان الشاعر قادر على اكتشاف جوهر حركة الوجود عبر لغة وفكرة وحدسه مثلما يفعل الفيلسوف حين يتمثل وعيه العميق.
(5)
في قصيدته (فلسفة موت صلاح جلال) يحيل إلى معضلة وجودية خطيرة لما تزل مصدر قلق كبير للفلاسفة ألا هي فلسفة الموت التي كانت الهاجس الكبير لكلكامش، ثم حاولت الأديان فهمها (تفسير منطقي وحلول مقنعة لها، بهدف ابعاد الأنسان عن هاجس الرعب والخوف من النهاية الحتمية، ثم تطور هذا إلى إحساس جمعي بنهاية العالم، لذا يقول:
آه من حذف كتابة دغدغة الوجود
كل حرف ذاب في كلمته وجملته
انتم باي إشارة تزينون جغرافية الجسد؟!
وكيف تحولون كرة الأرض إلى كوكب الحجر؟!
واللغة في الرمح مسح شكلها وإشارتها ووجهتها
والوجود في غربلة اللالغة نسى كلمة الموت (...)
ولعلي أتساءل: هل حقق الشاعر حقيقة مهمة لأنطولوجيا الوجود من خلال لغة الشعر الذي منحه قرصة اللف والدوران والهروب من الكشف عن الحقيقة التي يعدها الأنسان العادي اشبه بالصدمة الكهربائية التي تقض مضجعه؟ وهل هذه الأفكار التي تعرضها القصيدة عن الموت تعبر عن معناها المباشر وتعبر عن عقيدة الشاعر الفلسفية؟
لدي الكثير من التحفظات على محاولات الشاعر في مزج الفلسفة بالشعر أو التصوف الايماني بالفلسفة الإلحادية، لان ثمة تناقضاً كبيراً بين الجانبين، وهذا يعني ان يحتج نحو المراوغة، الهرب وراء لغة الشعر من اجل التعبير عن توجهه الفكري الوجودي، لان الشعر يمنحه فرصة للتوغل في فضاء الغموض، ويعطيه مبررات الابتعاد عن الفهم الظاهر للأفكار المطروقة.
جريدة دليل النجف وجرية الأتحاد


نووسەرەکان خۆیان بەرپرسیارێتی وتارەکانی خۆیان هەڵدەگرن، نەک کوردستانپۆست


چەند بابەتێکی پێشتری نووسەر




کۆمێنت بنووسە